الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وهي سنة سبع وثلاثين ومائتين. على أنه حكم بمصر من السنة الخالية من ذي القعدة إلى آخرها وقد ذكرنا تلك السنة في ترجمة إسحاق بن يحيى وليس ذلك بشرط في هذا الكتاب - أعني تحرير حكم أمير مصر في السنة وفيها - أعني سنة سبع وثلاثين ومائتين - وثبت بطارقة إرمينية على عاملهم يوسف بن محمد فقتلوه وبلغ المتوكل ذلك فجهز لحربهم بغا الكبير فتوجه إليهم وقاتلهم حتى قتل منهم مقتلة عظيمة. قيل: إن القتلى بلغت ثلاثة آلاف ثم سار بغا إلى مدينة تفليس. وفيها أطلق المتوكل جميع من كان في السجن ممن امتنع من القول بخلق القرآن في أيام أبيه وأمر بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي فدفعت إلى أقاربه فدفنت. وفيها ظهرت نار بعسقلان أحرقت البيوت والبيادر وهرب الناس ولم تزل تحرق إلى ثلث الليل ثم كفت بإذن الله تعالى. وفيها كان بناء قصر العروس بسامرا وتكمل في هذه السنة فبلغت النفقة عليه ثلاثين ألف ألف درهم. وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر الأمير على المتوكل من خراسان فولاه العراق. وفيها رضي المتوكل على يحيى بن أكثم وولاه القضاء والمظالم. وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم أبو يعقوب التميمي الحنظلي الحافظ المعروف بابن راهويه كان من أهل مرو وسكن نيسابور وولد سنة إحدى وستين ومائة وكان إمامًا حافظًا بارعًا اجتمع فيه الحديث والفقه والحفظ والذين والورع وهو أحد الأئمة الحفاظ وفيها توفي حاتم بن يوسف وقيل ابن عنوان أبو عبد الرحمن البلخي وكان يعرف بالأصم ونسب إلى ذلك لأن آمرأة سألته مسألة فخرج منها صوت ريح من تحتها فخجلت فقال لها: ارفعي صوتك وأراها من نفسه أنه أصم حتى سكن ما بها فغلب عليه الأصم وكان ممن جمع له العلم والزهد والورع. وفيها توفي حيان بن بشر الحنفي كان إمامًا عالمًا فقيهًا محدثًا ثقة ولي قضاء بغداد وأصبهان وحمدت سيرته. وفيها توفي الشيخ أبو عبيد البسري أصله من قرية بسر من أعمال حوران كان صالحًا مجاب الدعوة صاحب كرامات وأحوال واسمه محمد وكان صاحب جهاد وغزو. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن عمر الشافعي وحاتم الأصم الزاهد وسعيد بن حفص النفيلي والعباس بن الوليد النرسي - قلت: النرسي بفتح النون وسكون الراء المهملة - وعبد الله بن عامر بن زرارة وعبد الله بن مطيع وعبد الأعلى بن حماد النرسي وعبيد الله بن معاذ العنبري وأبو كامل الفضيل بن الحسين الجحدري ومحمد بن قدامة الجوهري. أمر النيل في هذه السنة: السنة الثانية من ولاية عبد الواحد بن يحيى على مصر وهي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. فيها حاصر بغا تفليس وبها إسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية فخرج إسحاق للمحاربة فأسر ثم ضربت عنقه وأحرقت تفليس وأحترق فيها خلق وفتحت عدة حصون بنواحي تفليس. وفيها قصدت الروم لعنهم الله ثغر دمياط في ثلاثمائة مركب فكبسوا البلد وسبوا ستمائة امرأة ونهبوا وأحرقوا وبدعوا ثم خرجوا مسرعين في البحر. وفيها توفي بشر بن الوليد بن خالد الإمام أبو بكر الكندي الحنفي كان من العلماء الأعلام وشيخًا من مشايخ الإسلام كان عالمًا دينًا صالحًا عفيفًا مهابًا وكان يحيى بن أكثم شكاه إلى الخليفة المأمون فاستقدمه المأمون وقال له: لم لا تنفذ أحكام يحيى فقال: سألت عنه أهل بلده فلم يحمدوا سيرته فصاح المأمون: اخرج اخرج فقال يحيى بن أكثم: قد سمعت كلامه يا أمير المؤمنين فاعزله فقال: لا والله لم يراعني فيك مع علمه بمنزلتك عندي كيف أعزله!. وفيها توفي صفوان بن صالح بن صفوان الثقفي الدمشقي مؤذن جامع دمشق كان إمامًا محدثًا سمع من وفيها توفي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام أبو المطرف الأموي الدمشقي الأصل المغربي أمير الأندلس ولد بطليطلة في سنة سبع وسبعين ومائة وأقام على إمرة الأندلس إثنتين وأربعين سنة ومات في صفر وملك الأندلس من بعده ابنه. وقد تقدم الكلام على سلفه وكيفية خروجه من دمشق إلى المغرب في أوائل الدولة العباسية. وفيها توفي محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن العسقلاني الحافظ مولى بني هاشم كان فاضلًا زاهدًا محدثًا أسند عن الفضيل بن عياض وغيره ومات بعسقلان وكان من الأئمة الحفاظ الرحالين. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي أحمد بن محمد المروزي مردويه وإبراهيم بن أيوب الحوراني الزاهد وإبراهيم بن هشام الغساني وإسحاق بن إبراهيم بن زبريق - بكسر الزاي وسكون الموحدة - وإسحاق بن راهويه وبشر بن الحكم العبدي وبشر بن الوليد الكندي وزهير بن عباد الرواسي وحكيم بن سيف الرقي وطالوت بن عباد وعبد الرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس الأموي وعبد الملك بن حبيب فقيه الأندلس وعمرو بن زرارة ومحمد بن بكار بن الريان ومحمد بن الحسين البرجلاني ومحمد بن عبيد بن حساب ومحمد بن المتوكل اللؤلؤي المقرىء ومحمد بن أبي السري العسقلاني ويحيى أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وستة أصابع. ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر هو عنبسة بن إسحاق بن شمر بن عيسى بن عنبسة الأمير أبو حاتم وقيل: أبو جابر وهو من أهل هراة ولي إمرة مصر بعد عزل عبد الواحد بن يحيى عنها ولاه المنتصر محمد بن الخليفة المتوكل على الله جعفر في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين على الصلاة فأرسل عنبسة خليفته على صلاة مصر فقدم مصر في مستهل شهر ربيع الأول من السنة المذكورة فخلفه المذكور على صلاة مصر حتى قدمها في يوم السبت لخمس خلون من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة متوليًا على الصلاة وشريكًا لأحمد بن خالد الصريفيني صاحب خراج مصر. وسكن عنبسة العسكر على عادة الأمراء وجعل على شرطته أبا أحمد محمد بن عبد الله القمي. وكان عنبسة خارجيًا يتظاهر بذلك فقال فيه يحيى بن الفضل من أبيات: الخفيف خارجيًا يدين بالسيف فينا ويرى قتلنا جميعًا صوابًا ولما ولي عنبسة مصر أمر العمال برد المظالم وخفص الحقوق وأنصف الناس غاية الإنصاف وأظهر من الرفق والعدل بالرعية والإحسان إليهم ما لم يسمع بمثله في زمانه وكان يتوجه ماشيًا إلى المسجد الجامع من مسكنه بالعسكر بدار الإمارة. وكان ينادي في شهر رمضان: السحور لأنه كان يرمى بمذهب الخوارج كما تقدم ذكره. وفي أول ولايته نزل الروم على دمياط في يوم عرفة وملكوها وأخذوا ما فيها وقتلوا منها جمعًا كبيرًا من المسلمين وسبوا النساء والأطفال فلما بلغه ذلك ركب من وقته بجيوش مصر ونفر إليهم يوم النحر سنة ثمان وثلاثين ومائتين - وقد تقدم ذلك - فلم يدرك الروم فأصلح شأن دمياط ثم عاد إلى مصر. وكان سبب غفلة عنبسة عن دمياط أنه قدم عليه عيد الأضحى وأراد طهور ولديه يوم العيد حتى يجمع بين العيد والفرح واحتفل لذلك احتفالًا كبيرًا حتى بلغ به الأمر أن أرسل إلى ثغري دمياط وتنيس فأحضر سائر من كان بهما من الجند والخرجية والزراقين وغيرهما وكذلك من كان بثغر الإسكندرية من المذكورين فرحلوا إليه بأجمعهم واتفق مع هذا أنه لما كان صبح يوم عرفة هجم على دمياط ثلاثمائة سفينة مشحونة بمقاتلة الروم فوجدوا البلد خاليًا من الرجال والمقاتلة ولم يمنعهم عنها مانع فهجموا على البلد وأكثروا من القتل والسبي والنهب. وكان عنبسة غضب على مقدم من أهل دمياط يقال له أبو جعفر بن الأكشف فقيده وحبسه في بعض الأبرجة فمضى إليه بعض أعوانه وكسروا قيده أخرجوه واجتمع إليه جماعه من أهل البلد فحارب بهم الروم حتى هزمهم وأخرجهم من دمياط ونزحوا عن دمياط مهزومين ومضوا إلى أشموم تنيس فلم يقدروا عليها فعادوا إلى بلادهم. ودام بعد ذلك عنبسة على مصر إلى أن ورد عليه كتاب المنتصر أن ينفرد بالخراج والصلاة معًا وصرف شريكه على الخراج أحمد بن خالد فدام على ذلك مدة ثم صرف عن الخراج في أول جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين ومائتين بعد أن عاد من سفرة الصعيد الآتي ذكرها في آخر ترجمته وانفرد بالصلاة. ثم ورد عليه كتاب الخليفة المتوكل بالدعاء بمصر للفتح بن خاقان أعني أن الفتح ولي إمرة مصر مكان المنتصر بن المتوكل وصار أمر مصر إليه يولي بها من شاء وذلك في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وأربعين ومائتين فدعي له بها على العادة بعد الخليفة. وفي أيام عنبسة المذكور كان خروج أهل الصعيد الأعلى من معاملة الديار المصرية على الطاعة وامتنعوا من إعطاء ما كان مقررًا عليهم وهو في كل سنة خمسمائة نفر من العبيد والجواري مع غير ذلك من البخت البجاوية وزرافتين وفيلين وأشياء أخر. فلما كانت سنة أربعين ومائتين تجاهروا بالعصيان وقطعوا ما كانوا يحملونه وتعرضوا لمن كان يعمل في معادن الزمرد من العمال والفعلة والحفارين فاجتاحوا الجميع وبلغ بهم الأمر حتى آتصلت غاراتهم بأعالي الصعيد فآنتهبوا بعض القرى المتطرفة مثل إسنا وأتفو وظواهرهما فأجفل أهل الصعيد عن أوطانهم وكتب عامل الخراج إلى عنبسة يعلمه بما فعلته البجاة فلم يمكن عنبسة كتم هذا الخبر عن الخليفة المتوكل على الله جعفر فكتب إليه بجميع ما فعلته البجاة فلما وقف على ذلك أنكر على ولاة الناحية تفريطهم ثم شاور المتوكل في أمرهم أرباب الخبرة بمسالك تلك البلاد فعرفوه أن المذكورين أهل بادية وأصحاب إبل وماشية وأن الوصول إلى بلادهم صعب لأنها بعيدة عن العمران وبينها وين البلاد الإسلامية براري موحشة ومفاوز معطشة وجبال مستوعرة وأن التكلف إلى قطع تلك المسافة وهي أقل ما تكون مسيرة شهرين من ديار مصر ويريد المتوجه أن يستعد بجميع ما يحتاج إليه من المياه والأزواد والعلوفات ومتى ما أعوزه شيء من ذلك هلك جميع من معه من الجند وأخذهم البجاة قبضًا باليد. ثم إن هؤلاء الطائفة متى طرقهم طارق من جهة البلاد الإسلامية طلبوا النجمة ممن يجاورهم من طريق النوبة وكذلك النوبة طلبوا النجدة من ملوك الحبوش وهي ممالك متصلة بشاطىء نهر النيل حتى تنتهي بمن قصده السير إلى بلاد الزنج ومنها إلى جبل القمر الذي ينبع منه النيل وهي آخر العمران من كرة الأرض. وقد ذكر القاضي شهاب الدين بن فضل الله العمري في كتابه " مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ": أن سكان هذه البلاد المذكورة لا فرق بينهم وبين الحيوانات الوحشية لكونهم حفاة عراة ليس على أحدهم من الكسوة ما يستره وجميع ما يتقوتون به من الفواكه التي تنبت عندهم في تلك الجبال ومن الأسماك التي تكون عندهم في العمران التي تجري على وجه الأرض من زيادة النيل ولا يعترف أحد منهم بزوجة ولا بولد ولا بأخ وأخت بل هم على صفة البهائم ينزو بعضهم على بعض. فلما وقف المتوكل على ما ذكره أرباب الخبرة بأحوال تلك البلاد فترت عزيمته عما كان قد عزم عليه من تجهيز العساكر. وبلغ ذلك محمد بن عبد الله القمي وكان من القواد الذين يتولون خفارة الحاج في أكثر السنين فحضر محمد المذكور إلى الفتح بن خاقان وزير المتوكل وذكر له أنه متى رسم المتوكل إلى عمال مصر بتجهيزه عبر إلى بلاد البجاة وتعدى منها إلى أرض النوبة ودوخ سائر تلك الممالك. فلما عرض الفتح حديثه على المتوكل أمر بتجهيزه وسائر ما يحتاج إليه وكتب إلى عنبسة بن إسحاق هذا وهو يومئذ عامل مصر أن يمده بالخيل والرجال والجمال وما يحتاج إليه من الأسلحة والأموال وأن يوليه الصعيد الأعلى يتصرف فيه كيف شاء. وسار محمد حتى وصل إلى مصر فعندما وصلها قام له عنبسة بسائر ما اقترحه عليه ونزل له عن عدة ولايات من أعمال الصعيد مثل فقط والقصير وإسنا وأرمنت وأسوان وأخذ محمد بن عبد الله القمي المذكور في التجهيز فلما فرغ من استخدام الرجال وبذل الأموال حمل ما قدر عليه من الأزواد والأثقال بعد أن جهز من ساحل السويس سبع مراكب موقرة بجميع ما تحتاج عساكره إليه: من دقيق وتمر وزيت وقمح وشعير وغير ذلك. وعينت لهم الأدلاء مكانًا من ساحل البحر نحو عيذاب يكون اجتماعهم فيه بعد مدة معلومة. ثم رحل محمد من مدينة قوص مقتحمًا تلك البراري الموحشة وقد تكامل معه من العسكر سبعة آلاف مقاتل غير الأتباع وسار حتى تعدى حفائر الزمرد وأوغل في بلاد القوم حتى قارب مدينة دنقلة وشاع خبر قدومه إلى أقصى بلاد السودان فنهض ملكهم - وكان يقال له علي بابا - إلى محاربة العسكر الواصل مع محمد المذكور ومعه من تلك الطوائف المقدم ذكرها أمم لا تحصى غير أنهم عراة بغير ثياب وأكثر سلاحهم الحراب والمزاريق ومراكبهم البخت النوبية الصهب وهي على غاية من الزعارة والنفار فعندما قاربوا العساكر الإسلامية وشاهدوا ما هم عليه من التجمل والخيول والعدد وآلات الحرب فلم يقدروا على محاربتهم عزموا على مطاولتهم حتى تفنى أزوادهم وتضعف خيولهم ويتمكنوا منهم كيفما أرادوا فلم يزالوا يراوغونهم مراوغة الثعالب وصاروا كلما دنا منهم محمد ليواقعهم يرحلون من بين يديه من مكان إلى مكان حتى طال بهم المطال وفنيت الأزواد فلم يشعروا إلا وتلك المراكب قد وصلت إلى الساحل فقويت بها قلوب العساكر الإسلامية فعند ذلك تيقنت السودان أن المدد لا ينقطع عنهم من جهة الساحل فصمموا على محاربتهم ودنوا إليهم في أمم لا تحصى. فلما نظر محمد إلى السودان التي أقبلت عليه انتزع جميع ما كان في رقاب جمال عساكره من الأجراس فعلقها في أعناق خيوله وأمر أصحابه بتحريك الطبول وبنفير الأبواق ساعة الحملة وتم واقفًا بعساكره وقد رتبها ميامن ومياسر بحيث لم يتقدم منهم عنان عن عنان وزحفت السودان عليه وهو بموقفه لا يتحرك حتى قاربوه وكادت تصل مزاريقهم إلى صدر خيوله فعند ذلك أمر أصحابه بالتكبير ثم حمل بعساكره على السودان حملة رجل واحد وحركت نقاراته وخفقت طبوله وعلا حس تلك الأجراس حتى خيل للسودان أن السماء قد انطبقت على الأرض فرجعت جمال السودان عند ذلك جافلة على أعقابها وقد تساقط عن ظهورها أكثر ركابها واقتحم عساكر الإسلام السودان فقتلوا من ظفروا به منهم حتى كفت أيديهم وامتلأت تلك الشعاب والبراري بالقتلى حتى حال بينهم الليل. وفات المسلمين علي بابا أعني ملكهم لأنه كان مع جماعة من أهل بيته وخواصه قد نجوا على ظهور الخيل. فلما انفصلت الواقعة وتحققت السودان أنهم لا مقام لهم بهذه البلاد حتى يأخذوا لأنفسهم الأمان فأرسل علي بابا ملك السودان إلى محمد بن عبد الله القمي يسأله الأمان ليرجع إلى ما كان عليه من الطاعة ويتحرك له حمل ما تأخر عليه من المال المقرر له لمدة أربع سنين فبذل له محمد الأمان وأقبل عليه علي بابا حتى وطىء بساطه فخلع عليه محمد خلعة من ملابسه وعلى ولده وعلى جماعة من أكابر أصحابه. ثم شرط عليه محمد أن يتوجه معه إلى بين يدي الخليفة المتوكل على الله ليطأ بساطه فامتثل علي بابا ذلك وولى ولده مكانه إلى أن يحضر من عند الخليفة وكان اسم ولده المذكور ليعس بابا. ثم عاد محمد بن عبد الله القمي بعسكره وصحبته علي بابا حتى وصل إلى مصر فأكرمه عنبسة المذكور وكان خرج إلى لقائه بأقصى بلاد الصعيدة وقيل: بل كان مسافرًا معه وهو بعيد. فأقام محمد بن عبد الله مدة يسيرة ثم خرج بعلي بابا إلى العراق وأحضره بين يدي الخليفة المتوكل على الله فأمره الحاجب بتقبيل الأرض فامتنع فعزم المتوكل أن يأمر بقتله وخاطبه على لسان الترجمان: إنه بلغني أن معك صنمًا معمولًا من حجر أسود تسجد له في كل يوم مرتين فكيف تتأبى عن تقبيل الأرض بين يدي وبعض غلماني قد قدر عليك وعفا عنك فلما سمع علي بابا كلامه قبل الأرض ثلاث مرات فعفا عنه المتوكل وأفاض عليه الخلع وأعاده إلى بلاده كل ذلك في أيام ولاية عنبسة على مصر. وابتنى عنبسة في أيام ولايته أيضًا المصلى المجاورة لمصلى خولان وكانت من أحسن المباني. ثم صرف عنبسة بيزيد بن عبد الله بن دينار في أول شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين. فكانت ولاية عنبسة المذكور على مصر أربع سنين وأربعة أشهر. قلت: وعنبسة هذا هو آخر من ولي مصر من العرب وآخر أمير صفى في المسجد الجامع وخرج من مصر في شهر رمضان وتوجه إلى العراق سنة أربع وأربعين ومائتين السنة الأولى من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهي سنة تسع وثلاثين ومائتين. فيها نفى المتوكل علي بن الجهم إلى خراسان. وفيها غزا الأمير علي بن يحيى الأرمني بلاد الروم - أعني الذي عزل عن نيابة مصر قبل تاريخه وقد تقدم ذلك كله في ترجمته - فأوغل علي بن يحيى المذكور في بلاد الروم حتى شارف القسطنطينية فأحرق ألف قرية وقتل عشرة آلاف حاج وسبى عشرين ألفًا وعاد سالمًا غانمًا. وفيها عزل المتوكل يحيى بن أكثم عن القضاء وأخذ منه مائة ألف دينار وأخذ له من البصرة أربعة آلاف جريب. وفيها في جمادى الأولى زلزلت الدنيا في الليل واصطكت الجبال ووقع من الجبل المشرف على وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود العباسي وهو يوم ذاك أمير مكة. وفيها توفي محمد بن أحمد بن أبي عواد القاضي أبو الوليد الإيادي ولاه المتوكل القضاء والمظالم بعدما أصاب أباه أحمد بن أبي عواد الفالج ثم عزل بعد مدة عن المظالم ثم عن القضاء كل ذلك في حياة أبيه في حال مرضه بالفالج. وأبوه هو الذي كان يقول بخلق القرآن وحمل الخلفاء على امتحان العلماء. وكان محمد هذا بخيلًا مسيكًا مع شهرة أبيه بالكرم. وكانت وفاته في حياة والده وعظم مصابه على أبيه مع ما هو فيه من شدة مرضه بالفالج حتى إنه كان كالحجر الملقى. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي إبراهيم بن يوسف البلخي الفقيه وداود بن رشيد وصفوان بن صالح الدمشقي المؤذن والصلت بن مسعود الجحدري وعثمان بن أبي شيبة ومحمد بن مهران الجمال الرازي ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن يحيى بن أبي سمينة ومحمود بن غيلان ووهب بن بقية. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وثلاثة وعشرون إصبعًا. بن إسحاق على مصر وهي سنة أربعين ومائتين. فيها سمع أهل خلاط صيحة عظيمة من جو السماء فمات خلق كثير. وفيها وقع برد بالعراق كبيض الدجاج قتل بعض المواشي. ويقال: إنه خسف فيها ببلاد المغرب ثلاث عشرة قرية ولم ينج من أهلها إلا نيف وأربعون رجلًا فأتوا القيروان فمنعهم أهل القيروان من الدخول إليها وقالوا: أنتم مسخوط عليكم فبنوا لهم خارجها وسكنوا وحدهم. وفيها حج بالناس محمد بن عبد الله بن داود العباسي. وفيها وثب أهل حمص على عاملهم أبي المغيث الرافقي متولي البلد فأخرجوه منها وقتلوا جماعة من أصحابه فسار إليهم الأمير محمد بن عبدويه الأنباري ففتك بهم وفعل بهم الأعاجيب. وفيها توفي إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الحافظ أبو ثور الكلبي كان أحد من جمع بين الفقه والحديث وسمع سفيان بن عيينة وطبقته وروى عنه مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح وغيره واتفقوا على صدقه وثقته. وفيها توفي أحمد بن أبي داود بن جرير القاضي أبو عبد الله الإيادي البصري ثم البغدادي واسم أبيه الفرح ولي القضاء للمعتصم والواثق وكان مصرحًا بمذهب الجهمية داعية إلى القول بخلق القرآن وكان موصوفًا بالجود والسخاء والعلم وحسن الخلق وغزارة الأدب. قال الصولي: كان يقال: أكرم من كان في دولة بني العباس البرامكة ثم ابن أبي عواد لولا ما وضع به نفسه من المحنة ولولاها لاجتمعت الألسن عليه ومولده سنة ستين ومائة بالبصرة. وقال أبو العيناء: كان أحمد بن أبي عواد شاعرًا مجيدًا فصيحًا بليغًا ما رأيت رئيسًا أفصح منه. قال ابن دريد: أخبرنا الحسن بن الخضر قال: كان ابن أبي داود مؤالفًا لأهل الأدب من أي بلد كانوا وكان قد ضم إليه جماعة يمونهم فلما مات أجتمع ببابه جماعة منهم وقالوا: يدفن من كان ساقة الكرم وتاريخ الأدب ولا يتكلم فيه! إن هذا لوهن وتقصير. فلما طلع سريره قام ثلاثة منهم فقال أحدهم: " البسيط " اليوم مات نظام الفهم واللسن ومات من كان يستعدي على الزمن وأظلمت سبل الآداب إذ حجبت شمس المكارم في غيم من الكفن وقال الثاني: " الكامل " ترك المنابر والسرير تواضعًا وله منابر لو يشا وسرير وقال الثالث: " الطويل " وليس نسيم المسك ريح حنوطه ولكنه ذاك الثناء المخفف وليس صرير النعش ما تسمعونه ولكنه أصلاب قوم تقصف وكانت وفاته لسبع بقين من المحرم. وكانت وفاة ابنه محمد بن أحمد بن أبي عواد في السنة الخالية. وقد تقدم ابن أبي عواد هذا في عدة أماكن من هذا الكتاب فيمن تكلم بخلق القرآن. وفيها توفي قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف أبو رجاء الثقفي من أهل بغلان وهي قرية من قرى بلخ. ومولده في سنة خمسين ومائة. وكان إمامًا عالمًا فاضلًا محدثًا رحل إلى الأمصار وأكثر من السماع وحدث عن مالك بن أنس وغيره وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وغير واحد. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي أحمد بن خضرويه البلخي الزاهد وأحمد بن أبي عواد القاضي وأبو ثور الفقيه إبراهيم بن خالد وإسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني وجعفر بن حميد الكوفي والحسن بن عيسى بن ماسرجس وخليفة العصفري وسويد بن سعيد الحدثاني وسويد بن نصر المروزي وعبد السلام بن سعيد سحنون الفقيه وعبد الواحد بن غياث وقتيبة بن سعيد ومحمد بن خالد بن عبد الله الطحان ومحمد بن الصباح أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعًا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا ونصف ذراع. السنة الثالثة من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهي سنة إحدى وأربعين ومائتين. فيها في جمادى الآخرة ماجت النجوم في السماء وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل وكان أمرًا مزعجًا لم يسمع بمثله. وفيها ولى الخليفة المتوكل على الله جعفر أبا حسان الزيادي قضاء الشرقية في المحرم وشهد عنده الشهود على عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة فكتب المتوكل إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد أن يضرب عيسى بالسياط حتى يموت ويرمى في دجلة ففعل به ذلك. وفيها فادى المتوكل الروم فخلص من المسلمين سبعمائة وخمسة وثلاثين رجلًا من أيدي الروم ممن كان أسيرًا عندهم. وفيها توفي الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان هكذا نسبه ولده عبد الله واعتمده جماعة من المؤرخين وزاد غيرهم بعد شيبان فقال: ابن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل الإمام أحد الأعلام وشيخ الإسلام أبو عبد الله الشيباني البغدادي صاحب المذهب مولده في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة روى عن جماعة كثيرة مثل هشيم وسفيان بن عيينة ويحيى القطان والوليد بن مسلم وغندر وزياد البكائي ويحيى بن أبي زائدة والقاضي أبي يوسف يعقوب ووكيع وابن نمير وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق والشافعي وخلق كثير وممن روى عنه محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح وأبو داود وخلق كثير. وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أصرع. وقال إبراهيم بن شماس: سمعت وكيعًا يقول: ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى يعني أحمد بن حنبل. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما نظرت إلى أحمد بن حنبل إلا تذكرت به سفيان الثوري. وقال القواريري: قال لي يحيى القطان: ما قدم علي مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. و روى ابن عساكر عن الشافعي: أنه لما قدم مصر سئل: من خلفت بالعراق فقال: ما خلفت به أعقل ولا أورع ولا أفقه ولا أزهد من أحمد بن حنبل. قلت: وفضل الإمام أحمد أشهر من أن يذكر ولو لم يكن من فضله ودينه إلا قيامه في السنة وثباته في المحنة لكفاه ذلك شرفًا وقد ذكرنا من أحواله نبذة كبيرة في هذا الكتاب في أيام المحنة وغيرها. وكانت وفاته في شهر ربيع الأول منها أي من هذه السنة رحمه الله تعالى. وقد روينا مسنده عن المشايخ الثلاثة المسندين المعمرين: زين الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الطحان وعلي بن إسماعيل بن بردس وأحمد بن عبد الرحمن الذهبي قالوا: أخبرنا أبو عبد الله صلاح الدين محمد بن أبي عمر المقدسي أخبرنا أبو النجيب علي بن أبي العباس المنصوري أخبرنا أبو علي حنبل بن علي الرصافي أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين أخبرنا أبو الحسين علي بن المذهب أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي أخبرنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي. وفيها توفي الحسن بن حماد أبو علي الحضرمي ويعرف بسجادة لملازمته السجادة في الصلاة. كان إمامً عالمًا زاهدًا عابدًا سمع أبا معاوية الضرير وغيره وروى عنه ابن أبي الدنيا وطبقته وهو أحد من امتحن بالقول بخلق القرآن وثبت على السنة وقد تقدم ذكره في أيام المحنة وشيء من أخباره وأجوبته لإسحاق بن إبراهيم نائب الخليفة ببغداد في سنة ثمان عشرة ومائتين. وفيها توفي محمد بن محمد بن إدريس أبو عثمان العسقلاني الأصل المصري ابن الإمام الشافعي رضي الله عنه. وكان للشافعي ولد آخر اسمه محمد توفي بمصر صغيرًا. وولي محمد هذا قضاء الجزيرة وحمدت هناك سيرته وسمع من أبيه وأحمد بن حنبل وغيرهما. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي الإمام أحمد بن حنبل والحسن بن حماد سجادة وجبارة بن المغلس وأبو توبة الربيع بن نافع الحلبي وعبد الله بن منير المروزي وأبو قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وأبو مروان محمد بن عثمان العثماني ومحمد بن عيسى التيمي الرازي المقرىء وهدية بن عبد الوهاب المروزي ويعقوب بن حميد بن كاسب. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعًا وخمسة أصابع.
|